
(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا)
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي *** فقمت أنشد أشواقي و ألطافي
لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا *** فهو الغفور لزلاتي و اسرافي
عفـوا لك الله قد أحببت طلعتكم *** لأنها ذكرتي سير أســـــــــلافي
يفديك من جعل الدنيا رسالته *** من كل أمثاله تفــــــــــــــدى بآلاف ـ1ـ
يلومني القاصي و الداني, لحب الشيخ القرضاوي! فقلت:ـ
إن شيخي نجم بازغ من بين حجب, و بدر مطل من بين سحب, عالِم في الإفتاء, دائم الارتقاء, من ابتلى الله فكره بداء, فعليه بكتبه, فهي له نعم الدواء ـ
هل يلومونني إذا تعـلـّّقت بفقه الحلال و الحرام, هو من بين الكتب, كحور مقصورات في الخيام ـ
أم يلومونني بتقلدي فقه الأقليات, أو فقه الأولويات, وجعلها منهجا ذا خطوات, في عصر التعقيد و المتاهات؟
أمّا فقه الزكاة: فهو مستعيرا جمالا من النيل, و عذوبةً من الفرات ـ
نفضَ شيخنا كتب التراث, و قرأ بلا تذمر و باكتراث, فخرج إلينا بفكر جديد, و عمل فريد, و لم يلتفت لهجاء أو ثناء, فصارت كلمته: (أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِى السَّمآءِ)ـ
إمامنا القرضاوي, ذاق مرارة الاعتقال و التعذيب, و هو العالم الأديب, و الشيخ الأريب, فاتــّـقى الله و صبر, و احتسب بلا ضجر, و عمل مخلصا للرب, خوفا من يوم العرض, فأكرمه الله: (وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ)ـ
يدع الجواب فلا يراجع هيبة *** و السائلون نواكس الأذقان
أدب الوقار و عز سلطان التقى *** فهو المطاع و ليس ذا سلطان
علــّمنا فقه الوسطية, برحابة صدر و أريحية, و أخرج إلينا مكنونات هذا الدين, من حسن تعامل و لين, في عصر طـَعِم فيه المسلمين, فقهٍ أصدأ من الغسلين ـ
شرح الله صدره, و هدى قلبه, فخرج إلينا بكتب الصحوة, التي لم تترك في ديننا أي فجوة ـ
للشيخ كتب عِظام, و سلاسل فكرية خطتها أنامل إمام, واقرأ إن شئت سلسة: نحو وحدة فكرية للعاملين في الإسلام
و لأن همّ الشيخ القرضاوي, إرضاء الخالق الباري, فكانت هناك سلسلة: حتميـّة الحل الإسلامي
واصل عمله بكل همّة, فأهدى لنا سلسة: فقه السلوك في ضوء القرآن و السنة
أما عن سلسلة: عقائد الإسلام, فهي كذلك للفارس الهمّام, فاعتلى بها أعلى مقام, فهل بحبه نلام؟
من عاصر عصر العلل, وأخذه ضيق و مَلل, و اختلاف في المِلل و النـِّـحل, فعليه بكتاب: أين الخلل!ـ
كتابه فقه الزكاة جزءان, هو كالماء للظمآن, و فتاواه فيها, كطيور على أغصان, نشتاق إليه في كثير من الأحيان, فاشتاقت له جنة الرحمن, و رزقه فيها نخل و رمان, و من كل فاكهة زوجان, و أكرمه بروح و ريحان, و رب راض غير غضبان ـ
كتاب ظاهرة الغلو في التكفير, جعل كثير منا يعيد التفكير, في مسائل جسام, قد تخرج صاحبها من دائرة الإسلام ـ
هنيئا لك يا شيخنا هذه المحصّـلة, فهي خفيفة ميسّرة, و للفردوس موصّـلة, تشفع لصاحبها في قبره, فهنيئا له مرضاة ربه. ذكرت قليلا منها و يسير, حتى لا أثقل على القارئ, لأن منهج شيخنا التيسير, و نبذ التعنت و التعسير, و صدق الصادق المصدوق, طبيب القلوب, و الذي في حبه
تذوب: (يَسِّرُوا و لاَ تُعَسِّرُوا ، و بَشِّرُوا و لاَ تُنَفِّرُوا)ـ
نشأ شيخنا في أسرة فقيرة, و في ظروف عسيرة, توفي أبواه و هو في العمر صغير, فأصبح ذلك القلب الكسير, قويا لا يخاف في الله لومة لائم, مدافعا عن دينه قاعدا أو قائم ـ
تتلمذ منذ نعومة أظفاره في الكتـّاب, فتعلم فقه الكِتاب, و فهم فحوى الخطاب, فرأينا منه العجب العجاب, لكل سؤال جواب, و فكر يحمل في ثناياه العِذاب, لاح لنا في سماء الجهل كشهاب, و إلتحق في شبابه بمدرسة الإخوان, فـَحـَسُـن الإنتساب ـ
عرف عنه حسن الالتزام, و النشاط و الانتظام, و الشجاعة و الإقدام, و كان من بين الإخوان, متميز بقوة الإيمان, و العفو و الإحسان, كيف لا و قد تتلمذ على يد الإمام البنا, رزقنا الله مرافقته في الجنـّـة ـ
أسند إليه الإمام البنا مهمّـات كثيرة, و ناب عنه في سفرات طويلة و قصيرة, فحسن ما فعل الإمام, لحسن اختيار الداعية المقدام, الذي نشر دعوة الحق بإتقان, لِما وقر في قلبه من إيمان ـ
اعتقل الشيخ إلى سجن الطور, فكان هو و إخوانه كملائكة في البيت المعمور, يذكرون الله و يسبحونه, يرجون رحمته و يخافونه, و البعض منهم نال شرف الشهادة, و هل هناك أفضل من تلك العبادة؟
هذه بداية حياة شيخنا باختصار, فهي مليئة بالعزم و الإصرار, فما غيّره نهجه وما فتر, في ذلك العهد الأغبر, عصر جمال و السادات, فبقى هو, و تحطموا هم, كما تحطمت العزّى و اللاّت ـ
محبي الشيخ كثر, لأن علمه بحر بلا قعر, و ما عرف عنه عسر, فبنى بيننا و بينه من المحبة جسر. لو نظرنا من حولنا, في شرقنا و غربنا, ما سمعنا إلا: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا)ـ
إن قام سوق العلم فهو كمالك *** أو مدّ باع الزهد فالشيباني
أو غاص في التفسير قلت مجاهد *** و الفقه و التعليم كالنعمان
و إذا تزاحمت الوفود فحاتم *** و كأحنف في الحلم و الغفران
و لم يسلم الشيخ من ذئاب الحاسدين, و المتقولين عليه و الكاذبين, ممن فاح منهم رائحة الخبث واللؤم, لكنّ جوابه لهم: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ)ـ
إن صوّروك فإنما صوّروا *** تاج الفخار و مطلع الأنوار
أو نقصوك فإنما نقصوا *** دين النبي محمد المختار
لا تجزعن فلست أول ماجد *** كذبت عليه صحائف الفجار
سخروا من الفضل الذي أوتيته *** و الله يسخر منهم في النارـ
نسأل الله أن يمتعنا بعمره, و يفيدنا بعلمة, و أن لا يحرمنا أجره, و أن يغفر لذنبنا و ذنبه
-------------------------
(1,2) شعر الدكتور عائض القرني